الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم
.الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية: ومن الثابت لدى علماء القراءات أن القراءات ليست هي الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وكلمة القراءات السبع هي التي أوجدت ذلك اللبس في المصطلحات، والقراءات ليست منحصرة بسبع قراءات، فهناك أكثر من ذلك، ولكن ابن مجاهد شيخ قراء عصره في بغداد المتوفى سنة 324 هـ، حاول أن يضبط القراءات الكثيرة التي انتشرت في البلاد الإسلامية، وكان بعضها ليس موثقا، فحاول أن يجمع القراءات، وأن يستخرج منها ما كان ثابتا عن طريق الرواية المتواترة بنقل الثقات من القراء، فاعتمد سبع قراءات، ووثقها، وثبت لديه أن قراءها عرفوا بالثقة والضبط والأمانة، وعرفت هذه القراءات بالقراءات السبع... وتحديد عدد القراءات المعتمدة بسبع قراءات جاء بمحض الصدفة، وكان يمكن أن يكون أكثر من ذلك أو أقل، وأدى هذا العدد إلى التباس كبير لدى كثير من الناس بين الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن والقراءات السبعة التي اعتمدها ابن مجاهد في القرن الثالث واختارها من القراءات الكثيرة التي شاعت في عصره. ولا شك أن العمل الذي قام به ابن مجاهد كان عملا عظيما وكان جهدا فائقا، لأنه استطاع أن يضع معايير دقيقة للقراءة المعتمدة الموثقة، وأن يقف عن طريق هذه المعايير في وجه القراءات الكثيرة التي لا يسلم بعضها من شذوذ أو ضعف، وهذا لا يعني أن القراءات الأخرى ليست صحيحة، فهناك قراءات موثوقة، وموافقة لمعايير التوثيق والضبط التي وضعها العلماء، إلا أن ابن مجاهد اقتصر في قبوله للقراءات على سبع قراءات اختارها من بين القراءات التي كانت شائعة. قال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف ألا يكون قرآنا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنعوا القراءات من الأئمة المتقدمين كأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني وأبي جعفر الطبري وإسماعيل القاضي قد ذكروا أضعاف هؤلاء، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة ابن عمرو ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدرا ومثلهم أكثر من عددهم أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحدا. وقال ابن الجزري في النشر: كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطئوه في ذلك، وقالوا: (ألا اقتصر على دون العدد أو زاده أو بين مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة). وقال الضراب في الشافي: (التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقل به أحد). وقال أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة أو أن هؤلاء السبعة المعنيين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم، ولهذا قال بعض من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين. وأضاف ابن تيمية: ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبتت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب الحضرمي ونحوهما كما ثبتت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف. وقال ابن الجزري: وقد تدبرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد. الثاني: اختلافهما جميعا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. الثالث: اختلافهما جميعا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد. ثم ختم ابن الجزري كلامه بقوله: وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقد وجب قبوله، ولم يسع أحدا من الأمة رده ولزم الإيمان به، وإن كله منزل من عند الله، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض. وقال السيوطي في الإتقان: وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن انحصار القراءات المشهورة في مثل ما في التيسير والشاطبية، وآخر من صرح بذلك الشيخ تقي الدين السبكي فقال في شرح المنهاج: قال الأصحاب: (تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع، ولا تجوز بالشاذة، وظاهر هذا يوهم أن غير السبع المشهور من الشواذ، وقد نقل البغوي الاتفاق على القراءة بقراءة يعقوب وأبي جعفر مع السبع المشهورة، وهذا القول هو الصواب). وفصل السبكي ذلك بقوله: واعلم أن الخارج عن السبع المشهورة على قسمين: منه ما يخالف رسم المصحف، فهذا لا شك فيه أنه لا تجوز قراءته لا في الصلاة ولا في غيرها، ومنه ما لا يخالف رسم المصحف ولم تشتهر القراءة به، وإنما ورد من طريق غريب لا يعول عليها، وهذا يظهر المنع من القراءة به أيضا، ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديما وحديثا، فهذا لا وجه للمنع منه، ومن ذلك قراءة يعقوب وغيره. والمعتمد في القراءات القرآنية النقل والتلقي والرواية، فما ثبت نقله وتلقيه عن إمام موثوق بقراءته وحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قراءة صحيحة، ولقد تعددت القراءات لسببين: السبب الأول: ثبوت نزول القرآن على سبعة أحرف، وهذا ثابت فيما رواه البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب قوله: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر»، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه». السبب الثاني: رسم القرآن، وروعي في رسم القرآن أن يكون شاملا للأحرف السبع، وقد ناقش (ابن الجزري) في كتابه (النشر) هذا الموضوع وقال: (وأما كون المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة فإن هذه مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها، فذهب جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا على ذلك أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها). وأكد أن الرأي الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة. وأشار بعض العلماء إلى وجود اختلافات بين المصاحف العثمانية من حيث الرسم القرآني، وحددوا أوجه الاختلاف بين مصحفي أهل المدينة والعراق باثني عشر حرفا، وهناك اختلاف بين مصحفي أهل الشام والعراق وبين مصحفي أهل الكوفة والبصرة، وهذه الاختلافات لا تتجاوز حدود الاختلاف فيما يدل عليه الرسم، أو زيادة حرف أو نقصانه، أو استبدال حرف بآخر. ومن أمثلة هذه الاختلافات: 1- مصحف أهل المدينة: وأوصى مصحف أهل العراق (ووصّى) بنقص الألف. 2- مصحف أهل المدينة: (سارعوا) مصحف أهل العراق (وسارعوا) بزيادة الواو. 3- مصحف أهل المدينة: {يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} ومصحف أهل العراق: {ويقول الذين آمنوا} بزيادة الواو. 4- مصحف أهل المدينة: {ومن يرتدد} مصحف أهل العراق: {ومن يرتد} بدال واحدة. 5- مصحف أهل المدينة: {بما كسبت أيديكم}، مصحف أهل العراق: {فبما كسبت} بزيادة الفاء. وهذه الاختلافات كما رأيناها لا تتجاوز حدود زيادة حرف عطف أو نقصانه، وهي لا تعتبر اختلافات بالمفهوم الحقيقي، ومع هذا فقد درسها العلماء، وحاولوا بيان أوجه الاختلاف وهو لا يتجاوز اختلاف رسم وأدى ذلك إلى اختلاف في القراءات.. وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه (عنوان البيان في علوم التبيان) في هذا الموضوع: (إن هذا الاختلاف بين تلك المصاحف إنما هو اختلاف قراءات في لغة واحدة لا اختلاف لغات، قصد بإثباته إنفاذ ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين واشتهاره بينهم). وهذا يؤكد لنا أن المصاحف العثمانية اتسعت لجميع القراءات وجميع الروايات التي نقلت إلينا عن طريق أئمة القراء الذين اشتهروا بجودة الحفظ وعمق المعرفة بالقراءات صحيحة. (والحاصل أن المصاحف العثمانية كتبت لتسع من القراءات ما يرسم بصور مختلفة إثباتا وحذفا وإبدالا، فكتبت في بعضها برواية، وفي بعضها برواية أخرى تقليلا للاختلافات في الجهة الواحدة بقدر الإمكان، فكما اقتصر على لغة واحدة في جميع المصاحف اقتصر على رسم رواية واحدة في كل مصحف، والمدار في القراءة على عدم الخروج عن رسم تلك المصاحف، ولذلك لا يخطر على أهل أي جهة أن يقرءوا بما يقتضيه رسم الجهة الأخرى). وعلّل (ابن الجزري) تجريد المصاحف العثمانية من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرأي يطرح علة جديدة لعدم النقض ويفسر عدم النقض لكي يستوعب المصحف القراءات القرآنية المتفقة مع الرسم. .مقاييس القراءة الصحيحة: (كان واحد عصره غير مدافع، وكان مع فضله وعلمه وديانته ومعرفته بالقراءات وعلم القرآن حسن الأدب، رقيق الخلق، كثير المداعبة، ثاقب الفطنة جوادا)، وكانت حلقات دروسه غاصة بالقراء، يتعلمون منه علم القراءات. واختار ابن مجاهد سبع قراءات، اعتبرها القراءات التي وقع الاتفاق عليها، وهي منسوبة لسبعة قراء، ولكل قارئ منهم سنده في روايته، وحجته فيما يقرأ، واختار قراءة السبعة من قراء الحجاز والعراق والشام ممن أتقن القراءة، وتعلم أصولها وقواعدها. وانتقد بعض العلماء (ابن مجاهد)، لأنه اختار سبعة قراء وكان بإمكانه أن يضيف إليهم بعض القراء الآخرين الذين لا يقلون عنهم مكانة، وقراءتهم لا تختلف عن القراءات السبع من حيث الدقة والصحة والشهرة والضبط، فضلا عما أدى إليه اختيار هذا العدد من لبس واشتباه لدى عوام الناس الذين لم يفرقوا بين القراءات السبع والأحرف السبعة، وبينهما فرق كبير.. وقد وضع العلماء مقاييس دقيقة للقراءة القرآنية الصحيحة، وبمقتضى هذه المقاييس تتسع دائرة القراءات الصحيحة. مقاييس القراءات الصحيحة عند ابن الجزري:
|